لقد قبلت البشرية ومنذ فترة طويلة الأمراض كحقائق حتمية في الحياة، كالتيفوئيد ومرض التيفوس، على سبيل المثال لا الحصر – وأصبحت مع الوقت غير مقبولة في عالمنا. ولكن بعد كل هذا النجاح، وبعد كل ما فعلته البشرية لمنع انتشار المرض من خلال الماء أو الحشرات مثلا، يبدو أننا أغفلنا شيئًا ما.. أغفلنا الهواء!
حقيقة تبين أن هذا كان له عواقب وخيمة على بداية جائحة فيروس كورونا (كوفيد - 19). قد نتذكر أنَ فهمنا بالبداية كان على أساس أن فيروس كورونا ينتشر مثل الإنفلونزا، فلم نكن بحاجة إلى تهوية أو كمامات. فبدأنا بغسل أيدينا وتطهير كل شيء نلمسه. لكن بعد عام ونصف من الأدلة تبيَن أن الجسيمات الدقيقة المحملة بالفيروسات باقية بالفعل في هواء المناطق سيئة التهوية. وهذا ربما يشرح سبب كون الهواء الطلق أكثر أمانًا منه في الداخل، ولماذا يمكن لشخص مصاب أن ينشر العدوى إلى عشرات الآخرين دون التحدث إليهم أو لمسهم مباشرة.
ولعلَ الأمرلا يتعلق فقط بفيروس كورونا هنا. صحيح أنَ اللقاحات وكمامات الوجه تعمل ضد فيروس كورونا، لكن بالنظر إلى المصادر الطبية تستنتج برهة بأنَ العلماء أرادوا التفكير بشكل أكبر وأكثر طموحًا بخلاف ما يمكن لأي شخص القيام به لحماية نفسه من فيروس كورونا أو أي وباء مستقبلي قادم. بمعنى لو أن المباني التي نعمل فيها سمحت لفيروسات الجهاز التنفسي بالانتشار عن طريق الهواء، فهنا يجب أن نكون قادرين على إعادة تصميم المباني لمنع ذلك مستقبلا. علينا فقط إعادة تصور كيفية تدفق الهواء في جميع الأماكن التي نعمل فيها ونتعلم ونلعب ونتنفس، خاصة بمدارسنا مثلا.
في الواقع، تمتلك مستشفياتنا ومختبراتنا الطبية بالفعل أنظمة مصممة لتقليل انتشار مسببات الأمراض تلك. وأعتقد أنَ السؤال الذي يجب أن نسأله هنا: هل نحن مستقبلا بحاجة إلى مجموعة جديدة ومختلفة من المعايير الدنيا في مدارسنا ومكاتبنا لمثل هذه الأنظمة؟ ربما سيكون التحدي المقبل لهكذا أفكارهي التكلفة، حيث يتطلب إدخال المزيد من الهواء الخارجي إلى المبنى أو إضافة مرشحات الهواء مزيدًا من الطاقة والمال لتشغيل هكذا نظام. وإن استطعت القول فالسؤال هنا أيضا يتلخص في: ما مقدار المرض الذي نحن على استعداد لتحمله قبل أن نتحرك سواء من خلال فكرة كهذه أو خطط مستقبلية نتطلع لها للوقاية من أي وباء يلوح بالأفق؟
صحيح أن حجم التغييرات الصحية المطلوبة في هذا العصر من قبل المجتمع هائل، ولكن هذا بلا شك لا يتجاوز قدرات مجتمعنا بإذن الله. قد تستغرق التغييرات وقتًا طويلاً حتى تصبح مهمة لهذا الوباء الحالي، ولكن هناك فيروسات أخرى تنتشر عبر الهواء، وبالتالي الاستعداد للمستقبل مهم جدا للتصدي لأي وباء قادم.
ختامًا، يجب أن نتذكر دائمًا إن مقدار التغييرات يعتمد على الزخم المتولد الآن. فاللقاحات بدت وكأنها ستنهي الوباء بسرعة - لكن بعد ذلك لم تفعل ذلك، لأن متغير دلتا أدى إلى تعقيد الأمور. وكلما طالت هذه الجائحة كلما زادت حدة تكلفة إخراج الهواء الداخلي - في الفكرة التي طرحناها أعلاه - وأصبح أمرًا مسلمًا به، بل وقد تصل فوائد التهوية إلى ما هو أبعد من فيروس كورونا . وبالتالي إذا أردنا أن نعيش مع فيروس كورونا إلى الأبد - كما يبدو مرجحًا جدًا – هل نستطيع تهوية مبانينا الملأى بالموظفين وتنظيف الهواء الداخلي فيها بشكل مستمر. فنحن لا نشرب مياه ملوثة، فلماذا نتسامح مع تنفس الهواء الملوث؟
د. يوسف بن علي المُلاَ
طبيب- مبتكر وكاتب طبي
سلطنة عمان