كتب – محمد المغني:
زينب البغدادي مصابة بالفشل الكلوي، تنتظر كلية من متبرع لتحل محل كليتيها المريضتين. قد تقصر مدة انتظارها بعد أن شرع أولادها الخمسة في خطة للتعرف على أكثرهم أهلية ليهب كليته لأمه.
تُجرى في البحرين 10 عمليات زراعة كلى سنويًا من متبرعين أحياء – إن حصلوا على متبرعين من أقارب المريض – وتقتصر عملية التبرع بالأعضاء في هذه الدائرة الضيقة.
أم علي كما ينادونها ليست الوحيدة التي تترقب الحصول على تبرع كريم يسهم في تقديم علاج جذري يخلصها من آلام الغسيل الكلوي وتبعاته، فعدد المصابين بالفشل الكلوي الذين يخضعون للغسيل الكلوي في المستشفيات الحكومية في البحرين يقارب 600 مريض.
وتتسع خدمات غسيل الكلى في القطاع العام على نطاق مركزين مع قرب افتتاح المركز الثالث، وفتحت 4 منشآت صحية في القطاع الخاص خدمة غسيل الكلى.
تصطدم عمليات التبرع بالأعضاء بمثبطين رئيسيين: أحدهما متعلق بالثقافة المجتمعية، إذ أن هذا النوع من التبرعات منخفض للغاية، والثاني هو غياب النص القانوني الذي يحدد من هم المتوفون دماغيا – أي غياب ما يحدد مصدر مهم آخر يعدّ أحد أهم مصادر الأعضاء البديلة.
الطبي تساءلت عن عوائق التبرع بالأعضاء من متوفين دماغيًا التي صدرت فيها فتاوي شرعية تجيزها من مرجعيات دينية مختلفة في ثمانينات القرن المنصرم، فالبُعد الشرعي مهم ومؤثر في مجتمعنا الذي يضع الدين في أولوياته عند اتخاذ القرارات.
فهل هي موانع قانونية أم اجتماعية؟ وهل تستطيع الأدوات الإعلامية والتسويقية الترويج لمفهوم التبرع بالأعضاء بعد الموت وتجعله سلوكًا اجتماعيًا يسهم في توفير أعضاء لمرضى قد تكتب لهم حياة جديدة بهدية من شخصٍ متوفى.
حملتُ أسئلتي وتوجهتُ بها لوزارة الصحة المسؤولة عن تشكيل اللجنة المركزية لنقل وزراعة الأعضاء ولم أتلقَ الرد حتى كتابة التقرير. وقصدتُ مختصين وخبراء في مجالات مختلفة للتعرف على ما يعيق وهب الأموات أعضاءهم للأحياء:
- فشل عائلي سابق يعرقل التبرع الحالي
أخبر الأطباء زينب أحمد البغدادي (أم علي) في شهر رمضان الماضي أن كليتيها لم تعودا تعملان بالكفاءة اللازمة وأن الغسيل الكلوي هو الحل لتصفية السموم من الدم.
أم علي سلمت لله أمرها فقد تسبب عامل وراثي في تكيسات كليتيها واستفحل حتى خفض من قدرات الكلى إلى 10 % ولم تفلح محاولات الأطباء في تحفيز الكلى للعمل لنسبة تبعدها عن الفشل وتعيدها لأداء دورها.
تفضل أم علي متبرعًا من خارج العائلة، خاصة بعد أن مروا بتجربة مماثلة فقد أصيب زوجها المتوفى بالفشل الكلوي، ولعل هذا ما جعل أم علي ترفض فكرة تبرع أحد أولادها (4 بنات وولد) لها بكلية.
وقالت: "بدأت في الغسيل البريتوني وهو نوع من الغسيل يدخل فيه سائل في البطن عبر أنبوب يزرع بعملية لتصفية السوائل في الجسم. كان مؤلمًا لدرجة أني أصرخ من الألم". وواصلت: "غيّر الطبيب موضع الأنبوب وظل الألم كما هو لغسيل أجريه يومين في الأسبوع".
وقالت ابنتها مها حماد أنها تدربت لمدة أسبوع على الغسيل البريتوني في مركز عبد الرحمن كانو لتكون قادرة على إجرائه لوالدتها في المنزل.
وعادت أم علي للقول أن الغسيل البريتوني لم يفلح وقرر الأطباء تحويلي على الاستصفاء الدموي وهو إجراء يتم في المستشفى لثلاث مرات في الأسبوع والذي يقوم على تصفية الدم بجهاز خاص عبر تمرير الدم من الجسم عبر أنبوب للجهاز ويعود للجسم مرة أخرى.
أم علي طلبت من الطبيب تخفيض عدد الجلسات من 3 جلسات لجلستين لأنها لا تستطيع تحمل الألم.
ربما كان أسرع حل لأم علي هو الحصول على كلية من متوف دماغيًا. لكنها لا تستطيع (أم علي) الحصول على ذلك حاليًا، إذ لا يعرّف القانون المحلي من هم المتوفون دماغيًا.
بعد طول معاناة، قررت مها حماد ابنة أم علي أنها وإخوتها - بعد استشارة الطبيب - البدء في إجراء الفحوصات التي تأخذ مدة تتراوح من 3 – 4 أشهر للتعرف على أصلحهم للتبرع بكليته لأمهم. وأكدت أن الفحوصات ستبدأ في الفترة البسيطة القادمة.
- د. العريض: الوفاة الدماغية من اختصاص الأطباء لا القانونيين
مرضى الفشل الكلوي في البحرين ينتظرون هبة من متبرع حي بشرط أن يكون من الأقارب حتى الدرجة الخامسة أو من متبرع متوفى التي تقتصر شروط قبول هبته التطابق الحيوي (فصيلة الدم والأنسجة) بينه وبين الموهوب له.
سألتُ د. أحمد العريض وهو عضو مجلس الشورى البحريني عن مشروع الوصية للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة التي طرحته جمعية أصدقاء مرضى الكلى البحرينية التي كان يرأسها، فقال أن مستشارًا قانونيًا في الحكومة أوصى بإيقاف قبول التبرع بالأعضاء من متوفين لعدم وجود نص في التشريعات البحرينية عن الوفاة الدماغية. وأشار إلى أن هذه التوصية طرحت من سنوات كان حينها يعمل في مستشفى السلمانية الطبي.
وقال وهو عضو مجلس الشورى البحريني (أحد غرفتي المجلس الوطني في مملكة البحرين) أنه لا يتفق مع هذا التفسير للمادة المختصة بالتبرع بالأعضاء بعد الوفاة في القانون البحريني.
وأوضح "من يحدد الوفاة الدماغية هم الأطباء وليس المستشاريين القانونيين، وهذا ما حدده المشرع البحريني في المادة السادسة من مرسوم بقانون رقم (16) لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية وكذا القرار رقم (65) لسنة 2020 بإصدار اللائحة التنفيذية للمرسوم بقانون رقم (16) لسنة 1998 بشأن نقْـل وزراعة الأعضاء البشرية اللذان يشيران إلى أن تحديد الوفاة من اختصاص لجنة من الأطباء".
وأكد أن الأطباء هم القادرون على تحديد الوفاة الدماغية والتي معها يستحيل العودة للحياة. وقال: "مع الوفاة الدماغية قد يظل القلب ينبض ذاتيًا بعد خروج الروح من جسد الإنسان، وكذا يستمر كل من الشعر والأظافر في النمو بعد الوفاة بأسابيع، لكن هذا النمو لا يعني وجود حياة".
وقال د. العريض وهو أحد مؤسسي برنامج زراعة الكلى في البحرين مع د جورج أبونا في منتصف تسعينيات القرن الماضي أن دول الخليج استفادت من القانون البحريني الذي أصدره المغفور له بإذن الله تعالى سمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في تسعينيات القرن الماضي حيث طورت من تشريعاتها التي أصبحت تجيز التبرع بالأعضاء من المتوفين.
ولفت إلى أن برنامج زراعة الكلى البحريني استطاع بجهود الأطباء العاملين فيه التواصل مع المركز السعودي لزراعة الأعضاء ومركز حامد العيسى لزراعة الأعضاء في الكويت. وأشار إلى أن هذا التعاون ساهم في تزويد البرنامج البحريني بكُلى من متبرعين دماغيًا من متوفين دماغيًا في البحرين ومساهمة بحرينية في مشروع زراعة الأعضاء الخليجي بأعضاء أخرى كالكبد للمركزين السعودي والكويتي.
وأشار تقرير للمركز السعودي لزراعة الأعضاء إلى أن البحرين بدأت في تقديم أعضاء من متوفين دماغيًا من عام 2004 وكانت آخر مشاركاتها في 2015. ورفدت المركز بـ 7 أكباد، وكليتان، وقلب.
- د. النجار: ممانعات اجتماعية تحد من التبرع
لكن المعوق التشريعي ليس الوحيد في التبرع بالأعضاء من المتوفين، فهناك ممانعات اجتماعية وثقافية بحسب د. باقر النجار أستاذ علم الاجتماع.
وأوضح قائلًا: "المجتمعات العربية بشكل عام لديها ممانعات اجتماعية وأخرى ثقافية تجاه التبرع بالأعضاء، وتصنف حركة الأشخاص الذين كتبوا وصاياهم للتبرع بأعضائهم بعد الموت بأنها حالات فردية وليست اتجاه عامًا".
وواصل: "هناك اتجاه واسع وكبير للتبرع بالدم في مناسبات دينية معينة ]حملات التبرع بالدم في شهري محرم وصفر[لكن خارج هذا الإطار لا توجد حملات للتبرع بالأعضاء".
وأجاب حول قدرة الحملات التوعوية في نقل التبرع بالأعضاء بعد الوفاة من حالات فردية لاتجاه أوسع، قال: "حملات التوعية عبر حسابات التواصل الاجتماعية لها القدرة على الشحن وهذا أثره مؤقت، ولا يمكنه كسر التابوهات الاجتماعية والثقافية".
وأشار أن الوسائط التعليمية والمنابر الدينية قادرة على تقليل حدة الممانعات الثقافية والاجتماعية، وهي بحاجة لوقت لتبلغ أهدافها.
وقال إن من شأن إدخال مفاهيم التبرع بالأعضاء في العملية التعليمية المساعدة في بناء حالة ثقافية تنمي الجانب الإنساني لدى الطلبة. وأن المؤسسات الدينية كالمساجد والمآتم قادرة أيضًا على خلق اتجاه عام بشأن التبرع بالأعضاء بعد الوفاة.
وقد استند قانون نقْـل وزراعة الأعضاء البشرية البحرينية إلى قرار مجلس مجمع الفقه الاسلامي رقــم (5) د 3/07/86 الصادر في عام 1986 م الذي يجيز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه. والقرار منشور على صفحة اللجنة المركزية لنقل وزراعة الأعضاء البشرية في باب الأسئلة الشائعة. كما نشرت جمعية أصدقاء الكلى البحرينية قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وفتوى للمرجع الشيعي آيه الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي بجواز التبرع بالأعضاء من الميت.
- الحسيني: يمكن تسويق المفهوم بشروط
قادنا البحث عن الموانع والعقبات التي تقف أمام التبرع بعد الوفاة إلى سؤال هل يمكن للتسويق أن يروج لهذه الفكرة في المجتمع، ليخلق اتجاه عامًا وليس شحنًا كما أشار د. باقرالنجار؟
حملت الطبي السؤال وتوجهت به لعبير الحسيني مُؤسِسة وكالة H2M التي تعمل في مجال التسويق، وأجابت: "يمكن ذلك بشروط. أولها أن يؤمن معد الخطة التسويقية بالفكرة، وأن تكون مستمرة، فالاستمرار هو الذي يحدث التأثير".
ولفتت إلى أن الحملات التوعوية الصحية في المملكة في جزء منها مبادرات فردية، ومنها حملات لبعض الجهات الحكومية أو الخاصة وضربت مثالًا على ذلك بحملات التوعية بسرطان الثدي.
وقالت: "للأسف المساحة الزمنية للحملات بسيطة جدًا تنشط في أيام معينة من السنة، ثم تخفت حتى العام القادم. وهذا يضعف من تأثيرها ويجعله وقتيًا". وواصلت: "حملات التوعية تركز على نقطة مهمة للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض وهي تغيير أنماط الحياة، وللوصول لهذه النقطة يجب أن يكون العمل مستمر بشكل منهجي".
وحول تسويق فكرة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة أشارت إلى أن قرارًا مثل هذا يحتاج لحملة توعوية كبيرة تبنى على تغيير نظرة الأفراد والمجتمع للفكرة.
ولفتت إلى أن نجاح هذه الحملات يحتاج لتضافر الكثير من الجهود أولها التوجهات الحكومية بداية من تشريع التبرع بالأعضاء بعد الموت، وتبيان الحكم الشرعي من خلال الأئمة والخطباء في المساجد، والتثقيف الصحي من وزارة الصحة والأطباء، وبقية المكونات من مؤسسات طبية في القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني.
وختمت بالقول: "هنا يستطيع التسويق وضع خطة استراتيجية طويلة المدى لتحدث أثرًا".
- جلال يوصي ويبحث
التقت الطبي بجلال ناصر أحد الذين أوصوا بالتبرع بأعضائهم بعد الوفاة وسجلوا وصيتهم في وزارة الصحة في عام 2013م. وقال: "كنتُ مع اثنين من الأصدقاء وصلنا منشور على الإنستغرام وأعتقد أنه لممرض وبجهد فردي يحث على تسجيل وصية للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة في قسم أمراض الكلى بمجمع السلمانية الطبي". وواصل: "تعاهدت مع صديقيَ للذهاب ليسجل كل واحد منا وصيته ويشهد الآخران عليها. وهذا ما حدث بالفعل".
القرار لم يكن فرديًا بالكامل فقد أخبر ناصر زوجته بالوصية وكذلك والديه وأقاربه على فترات مختلفة. وقال: "اختلفت ردود أفعالهم لكني أخبرتهم بأن وصيتي واجبة النفاذ بعد وفاتي، وأصبح الأمر معروفًا على مستوى العائلة ومتقبلًا أيضًا".
جلال ناصر رئيس جمعية الإحصاء البحرينية التي أطلقت بحثًا في يوليو الماضي للتعرف على معوقات التبرع بالأعضاء بعد الوفاة بيّن أن الجمعية اختارت هذا الموضوع لتقديم دراسة ذات قيمة للمجتمع البحريني.
وواصل: "بالصدفة عثر فريق البحث عن دراسة بريطانية عن التبرع بالأعضاء منشورة على موقع الحكومة البريطانية، وكانت ضالتنا المنشودة، أخذنا الدراسة كنموذج وكانت أساس لدراستنا عن التبرع بالأعضاء بعد الوفاة في البحرين، وعرضنا مواد الدراسة للتحكيم على خبراء".
وأضاف: "أعددنا الاستطلاع الذي نشرناه على نطاق واسع، لكن للأسف لم نحصل على التجاوب فقد شارك في الاستطلاع حوالي 400 شخص (عند إجراء اللقاء) من العينة التي نستهدف أن تصل إلى 4 آلاف شخص في الحد الأدنى".
وأوضح أن التجاوب مع الاستطلاع ضعيف وأن الجمعية نشرته على عدة قنوات وعلى رأسها قنوات التواصل الاجتماعي للجمعية وقوائم مراسلات الوتس اب وكذلك تعاوننا مع صحيفة البلاد لنشر الاستطلاع.
وأضاف: "من ضمن أهداف الدراسة إرسال بيانات المشاركين في الدراسة من الذين ينوون التبرع بأعضاءهم بعد الوفاة لوزارة الصحة للتواصل معهم وتسجيل وصايا الراغبين منهم بشكل رسمي".
لكن هذا الهدف سيظل معلقًا حتى إيجاد صيغة قانونية تعيد العمل بالتبرع بالأعضاء من متوفين دماغيًا في البحرين.
وحتى الوصول لتلك المرحلة ستظل أم علي التي تخشى على صحة أولادها إن تبرعوا لها بكلية وغيرها من المصابين بالفشل الكلوي ينتظرون على أمل الحصول على كلية تعيد لهم ما افتقدوه من صحة.