متى تأسست وحدة العناية المركزة؟

وحدات العناية المركزة جزء من وحدات الرعاية التي تلعب دورًا كبيرًا في التصدي لفيروس كورونا كوفيد – 19، وهي من الوحدات الأساسية في المستشفيات التي تجرى فيها العمليات الجراحية الكبرى. الوحدة المهمة تسهم في إنقاذ العديد من المرضى من الأطفال المبسترين إلى المصابين بحروق خطيرة وليس انتهاءًا بالمرضى الخارجين توًا من عمليات القلب والآخرين الذين يحتاجون لعناية مركزة تساعدهم في استعادة عافيتهم.

لكن متى تأسست هذه الوحدة التي تحتل موقعًا مهمًا في رحلة التشافي وتحسين جودة حياة المرضى؟

ارتبط مفهوم العناية المركزة بحدثين الأول الحرب والثاني انتشار مرض شلل الأطفال. الحدثان وضعا طواقم الرعاية الصحية أمام ضغط كبير لكثرة المصابين بالمرض، أو المجروحين، ووضعهم الصحي الذي قد يحتاج لرعاية خاصة.

مؤرخو الطب أشاروا إلى وجود العديد من الشخصيات والأحداث التي ساهمت في التأسيس لطب الرعاية المركزة الذي هو أبعد من وحدة مجهزة بأجهزة التنفس الصناعي وغيرها من الأجهزة التي تعوض عن فشل بعض الأعضاء.

فلورنس نايتنجيل - رائدة التمريض الحديث – طبقت أول وأبسط قواعد الرعاية الصحية المكثفة أثناء حرب القرم التي اندلعت في خمسينيات القرن التاسع عشر، فطالبت بوضع المصابين بجراحات خطرة في الأسرة القريبة من محطة التمريض حتى يمكن مراقبتهم عن كثب، مما يبقيهم تحت رعاية مركزة ويميزهم عن المرضى ذوي الإصابات الأقل خطورة.

 

استئصال ورم

الفكرة أو الإجراء تطور بصور مختلفة في ثلاثينيات القرن الماضي، وأسهم د. هارفي كوشينغ الذي يعد أكثر جراحي الدماغ ذكاءً في جيله في إدخال إجراءات جديدة ساهمت في إنقاذ المرضى الذي يجرون عمليات جراحية معقدة في البقاء على قيد الحياة.

فقبل ثلاثينيات القرن العشرين، توفي العديد من الأشخاص الذين خضعوا لأكبر العمليات الجراحية تعقيدًا بعد فترة وجيزة. حتى جاء د. كوشينغ الذي أجرى تغييرًا بسيطًا ولكنه جذري ساهم في تطوير الرعاية الصحية.

في 15 أبريل 1931 ، أجرى د. كوشينغ عملية لاستئصال ورم في دماغ إيدا هيرسكويتز البالغة من العمر 31 عامًا، لإزالة ورم في رأسها كان يسبب لها صداعًا حادًا وكاد يفقدها البصر في مستشفى بيتر بنت بريجهام في بوسطن، ماساتشوستس.

د. كوشينغ كان دقيقًا وركز في جراحته على الورم دون أن يقترب من دماغ المريضة المكشوف وشد الأوعية الدموية. لم تكن المضادات الحيوية اخترعت بعد ولكن د. كوشينغ حريص على ارتداء القفازات والقناع لدرء مخاطر التلوث البكتيري، وفعل كل ما في وسعه لتعقيم الجرح.

 

صارم لا يقبل الأخطاء

وقالت دينيس سبينسر، أستاذة جراحة الأعصاب بكلية الطب بجامعة ييل، لبي بي سي future إن كوشينغ كان يلقب بالأب الروحي لجراحة الأعصاب. وكان يكرس وقته وجهده للعناية بمرضاه وتحويل جراحة الدماغ إلى تخصص مستقل.

وكثيرا ما كان د. كوشينغ يعتني بجروح المرضى بنفسه بعد العملية حتى تلتئم، ووضع أنظمة صارمة لمتابعة المرضى وتدوين الملاحظات، وكان أول من اهتم باستخدام الأشعة السينية ومراقبة ضغط دم المرضى.

وتقول سبينسر إن "د.كوشينغ حوّل الجناح بأكمله إلى ما يشبه غرفة العناية المركزة. وكان الممرضون والجراحون المبتدئون يعون تمامًا أنه إذا كانت ملاءات الأسرّة غير مثبتة بإحكام أو الضمادات غير نظيفة أو إذا اشتكى المريض، سيقعون في مشاكل كبيرة". فقد عرف عن د. كوشينغ أنه لا يقبل الأخطاء.

ورغم الاختلاف الكبير بين جناح د. كوشينغ وبين غرف العناية المركزة كما نعرفها اليوم، التي يحاط فيها المرضى بأجهزة استشعار وأجهزة مراقبة وظائف أعضاء الجسم، إلا أن المفهوم كان مشابهًا.

وقبل الإجراءات التي اتبعها د.كوشينغ، كان الموت يحصد ثمانية من كل عشرة مرضى خضعوا لجراحات الدماغ، لكنه أسهم في خفض نسبة الوفيات في المستشفى إلى 8 % فقط.

 

منحنى جديد

وبعد تطور العمليات الجراحية إبان الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينيات من القرن الماضي، حين أجريت أول جراحة قلب مفتوح، طبقت الأنظمة التي وضعها د.كوشينغ للعناية بالمرضى بعد العمليات الجراحية في مستشفيات عديدة، وهو ما ساهم في إنقاذ حياة الكثير من المرضى.

ولكن هذا الشكل من وحدات العناية المركزة الذي طوره د. كوشينغ كان يختص بالعمليات الجراحية المخطط لها مسبقًا، في حين ينسب الفضل في تطور غرف العناية المركزة المخصصة للمرضى والمصابين بجروح خطيرة إلى أحد الأوبئة.

إذ انتشر في النصف الأول من القرن العشرين وباء شلل الأطفال، وكان يصيب نحو عشرات الآلاف من الأطفال حول العالم سنويًا. وكانت أعداد الإصابات بشلل الأطفال تزداد في فصل الصيف، وتكون أعراضه في البداية شبيهة بأعراض الإنفلونزا. وفي بعض الحالات، يغزو الفيروس الجهاز العصبي ويصيب المرضى بالشلل وتتوقف عضلاتهم التنفسية. وكثيرًا ما يصاب الناجون من المرض بإعاقات مستديمة أو صعوبات في التنفس.

 

شلل في الدنمارك

بعد حوالي 20 عامًا من التأسيس للمنهج الجديد في الرعاية بعد الجراحة، وعلى التحديد في أغسطس 1952 استقبل مستشفى بليغدام في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن مئات الأطفال المصابين بشلل الأطفال ومضاعفاته الخطيرة.

احتاج الأطفال لجهاز يساعدهم على التنفس، ولم يكن هناك سوى رئة حديدية – نظام تنفس ميكانيكي - واحدة في كوبنهاغن بأكملها، وستة فقط من أجهزة التنفس الصدرية في مقابل 316 مريضًا يحتاجون للعلاج.

دعا كبير الأطباء في المستشفى إلى اجتماع عاجل لإيجاد حل مناسب واقترح طبيب التخدير بيورن إيبسن إيصال الهواء مباشرة لرئة المريض عبر أنبوب يدخل من الفم ويمر عبر القصبة الهوائية لإيصال الهواء للرئة وكانت تقنية طورت للاستخدام أثناء الجراحة.

التقنية لم تكن حلًا مثاليًا فقد كانت غير مريحة للمرضى ولم يمكن تحملها لفترات طويلة، فاقترح د. إيبسن ادخال الأنبوب مباشرة من خلال ثقب صغير في الرقبة، أسفل الحنجرة مباشرةً، وادخال أنبوب مباشرةً في الرئتين. وكان هذا الأنبوب متصلا بكيس مطاطي يضغط عليه الطبيب يدويًا لضخ الهواء. وساهم حينذاك مئات الأطباء وطلاب الطب وطب الأسنان في ضخ الهواء يدويا عبر الأكياس إلى رئات المرضى ومراقبتهم.

وأنقذت هذه الطريقة التي ابتكرها د.إيبسن عشرات الأرواح وأقامت المستشفى بعدها أول غرفة عناية مركزة في العالم وخصصت لها جناحا وفريق تمريض.

 

العناية المركزة.. فريق

وعلقت دانييل برايدن نائب عميد رابطة الاستشاريين في العناية المركزة بالمملكة المتحدة لبي بي سي: "العناية المركزة هي تخصص طبي مستقل بذاته، فهي ليست مكانًا بقدر ما هي مجموعة من الإجراءات والقواعد والمبادئ الأخلاقية للعناية بالمريض".

ابتكارات د. إيبسن بدأت بالانتشار حول العالم جنبًا إلى جنب مع إجراءات الرعاية اللاحقة للعمليات الجراحية الرائدة من قبل د.كوشينغ، في بناء وحدات متخصصة بمعظم المستشفيات الكبيرة.

تطورت وحدات الرعاية مع مرور الوقت ودخلت الأجهزة الطبية تباعًا من أجهزة تنفس، وقياس المؤشرات الحيوية كنبضات القلب وقياس ضغط الدم، وحرارة الجسم، والأجهزة المساعدة في حال فشل بعض أعضاء الجسم أو الفشل المتعدد.