مع بداية اكتشاف الفيروس التاجي كورونا كوفيد – 19 قبل حوالي 16 شهرًا توالت التحذيرات من خطر انتشاره الكبير والمحتمل بين الكبار في السن والأطفال بسبب ضعف جهازهم المناعي.
لكن نتائج رصد الفيروس أثارت حيرة العلماء بسبب نسبة الاصابات بين الأطفال التي كانت دون المتوقع وظلت منخفضة مقارنة بانتشار كوفيد – 19 بين البالغين.
فهم اللغز البيولوجي لا زال محل بحث العلماء لكن هناك مجموعة متزايدة من الأدلة تشير إلى سبب حدوث ذلك، إذ يبدو أن الأجهزة المناعية للأطفال مُهيّأة بشكل أفضل للقضاء على فيروس كوفيد، مقارنةً بالأجهزة المناعية لدى البالغين. بحسب تقرير في الطبعة العربية لمجلة Nature.
جهاز مناعي غِر لكن قوي
وقالت اخصائية المناعة في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك دونا فاربر: "أجسام الأطفال مُهيّأة بدرجة كبيرة للاستجابة للفيروسات الجديدة". وحتى عندما يصاب الأطفال بفيروس "سارس-كوف-2"، لا تظهر عليهم في الأغلب سوى أعراض طفيفة، أو لا تظهر عليهم أي أعراض على الإطلاق.
وتشير ميلاني نيلاند، أخصائية المناعة في معهد مردوخ لأبحاث الأطفال في ملبورن في أستراليا، في خلاصة لإحدى دراستها: "ما إنْ يرصد الجهاز المناعي للأطفال الفيروس، حتى تبدأ تلك الاستجابة المناعية السريعة والفاعلة التي تقضي على الفيروس قبل أن يتضاعف إلى الحدّ الذي تظهر معه نتيجة اختبار المسحة إيجابية".
وقالت فاربر إن طبيعة الأجسام المضادة التي يُكَوِّنها الأطفال يمكن أن تدلّنا على ما يحدث في هذه الحالة. ففي دراسة أجريت على 32 بالغًا، و47 طفلًا في سن 18 عامًا أو أقل، وجدت فاربر وزملاؤها أن الأجهزة المناعية لدى الأطفال كوّنت في الغالب أجسامًا مضادة تستهدف البروتين الشوكي لفيروس "سارس-كوف-2"، الذي يستخدمه الفيروس للدخول إلى الخلية. أما البالغون، فقد طوّروا أجسامًا مضادة مشابِهة، لكنهم كوّنوا أيضًا أجسامًا مضادة لبروتين القفيصة النووية (Viral Capsid)، وهو البروتين اللازم لتَضاعُف الفيروس.
وعلقت فاربر إلى أن غياب الأجسام المضادة لبروتين القفيصة النووية لدى الأطفال يعني أنهم لا يمرّون بمرحلة العدوى الشديدة، إذ يبدو أن الاستجابة المناعية لدى الأطفال تقضي على الفيروس قبل أن يُحكِم سيطرته على الجسم.
وأشارت إلى أن قدرة الأطفال على القضاء على الفيروس سببها أن الخلايا التائية لديهم عديمة الخبرة نسبيًّا (ما يعرف بالخلايا التائية الساذجة). والخلايا التائية هي جزء من الجهاز المناعي التكيّفي للجسم، ولديها القدرة على تمييز المُمْرِضات التي تواجهها على مدار العمر. ونظرًا إلى أن الخلايا التائية لدى الأطفال غير مدربة غالبًا، فربما تكون لديها قدرة أكبر على الاستجابة للفيروسات الجديدة.
وقال ألاسدير مونرو، الذي يَدرُس الأمراض المُعدية لدى الأطفال في مستشفى ساوثهامبتون الجامعي بالمملكة المتحدة، إنه يمكن ربط قدرة الأطفال على القضاء على الفيروس بالاستجابة المناعية الفطرية القوية لديهم منذ ولادتهم، واستدرك: "لكن من الصعب دراسة هذا التأثير". إضافة إلى أنه يطرح تساؤلًا حول سبب عدم ظهور هذا التأثير مع فيروسات أخرى تصيب الأطفال بالأمراض، حسبما أشار مونرو.
قد يكون السر في الأنف
الأدلة غير القطعية على مقاومة الأجهزة المناعية للأطفال تتيح المجال لفرضية أخرى تشير إلى تعرض الأطفال لجرعات أقل من الفيروسات بالمقارنة مع البالغين، لأن أنوفهم تحتوي على عدد أقل من مستقبِلات الأنجيوتنسين 2 ACE2، التي يستخدمها الفيروس للدخول إلى الخلايا. ويقول الباحثون إن ذلك ربما يفسّر سبب انخفاض معدل انتشار كوفيد - 19 بين الأطفال، مقارنةً بالبالغين.
ويشدد مونرو على إنه من غير المرجّح أن يكون هناك تفسير واحد فحسب للسبب الذي يجعل الأطفال أقلّ تأثرًا من البالغين بمرض كوفيد - 19. ويضيف: "نادرًا ما يكون علم الأحياء على هذا النحو من البساطة".
وقد يكون في الشرايين
فرضية أخرى نشرت في الطبعة العربية لمجلة Nature يوليو الماضي، حول ملاحظة تجلط الدم في الأوعية الدموية لدى عديدٍ من البالغين الذين يعانون إصاباتٍ حادة بمرض كوفيد - 19، ما يؤدي إلى تعرُّضهم لنوبات قلبية، أو سكتات دماغية.
وتوصلت دراسة قادها فرانك روشيتسكا طبيب القلب بمستشفى جامعة زيورخ في سويسرا إلى أنَّ الفيروس أصاب بطانة الأوعية الدموية، وتَسبب في حدوث التهابٍ بها، كما ثَبَت وجود علاماتٍ على تجلط الدم.
وعادةً ما تكون حالة بطانة الأوعية الدموية لدى الأطفال أفضل بكثير منها لدى البالغين. وفي ذلك، يقول بول موناجل، اخصائي أمراض دم الأطفال في كلية طب الأطفال بجامعة ملبورن في أستراليا: "إن البِطانة لدى الأطفال تكون في حالةٍ مثالية، ثم تتدهور مع التقدم في العمر".
ويذهب موناجل مع القائلين إنَّ الأوعية الدموية لدى الأطفال تمتاز بقدرةٍ أكبر على مقاومة الهجمات الفيروسية. ويقول إنَّ هذه النظرية يدعمها أيضًا ما لاحظه الباحثون من أنَّ عددًا قليلًا من الأطفال المصابين بمرض كوفيد - 19 هُم مَن يعانون من فرط تجلط الدم، وتلف الأوعية الدموية.
مفاتيح حل اللغز تتجمع من أجل فهم طبيعة انتشار العدوى والتغلب عليها داخل الجسم، وتطوير طرق وعلاجات قد تساهم في التغلب على الفيروس بالاستفادة من خبرات أجهزة مناعية قليلة الخبرة.