نَفَس المعلم بدا واضحاً في كتاب «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل » لبديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري( 1136 - 1206 ).
الجزري جمع في حياته بين العلم والعمل والتحريض عليه ويمثل وصفه للآلات وصف مهندس مخترع مبدع عالم بالعلوم النظرية والعلمية، فهو يعتبر من أعظم المهندسين والميكانيكين والمخترعين في التاريخ.
وضع الجزري في كتابه «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل » عصارة عمل دؤوب استمر 25 عاما، ويظهر من طريقة عرضه أن هذا العالم كان يريد للمهتمين من بعده أن يستفيدوا من علمه، حيث وضع بالتفصيل طريقة صنع كل آلة من الآلات التي اخترعها.
ترجم الكتاب الذي أبهر الغرب إلى لغات عدة، وهو يُعرَض في متاحف عديدة حول العالم مثل تركيا وفرنسا وبريطانيا.
وقد طُبِع الكتاب في القرن السادس عشر في مطبعة عائلة مديشي، التي كانت تحكم فلورنسا بإيطاليا. وكانت هذه العائلة راعية المخترع والفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دا فنشي، الذي تقول الموسوعة البريطانية إنه درس كتاب الجزري.
وصف في كتبه العديد من الآلات الميكانيكية المختلفة من ضاغطة، ورافعة، وناقلة، ومحركة.
كما وصف بالتفصيل تركيب الساعات الدقيقة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي يظهر فوقها: ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وساعة الطبال، إلخ. وتعتبر ساعة الفيل الضخمة أهم اختراعاته ومصدرعزه وفخره.
ويذكر دونالد هيل بأن الجزري صنع ساعات مائية وساعات تتحرك بفتائل القناديل وآلات قياس ونوافير وآلات موسيقية وأخرى لرفع المياه. كما صنع إبريقاً جعل غطاءه على شكل طير يصفر
عند استعماله لفترة قصيرة قبل أن ينزل الماء. كما ذكر ألدو مييلي أن الجزري صنع ساعة مائية لها ذراعان تشيران إلى الوقت.
ويعتبر الجزري واحداً من عمالقة الهندسة في التاريخ، إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دوراً محورياً في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنيّة الحديثة. فهو من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل من دون قوة دفع بشرية، وقد احتوى كتابه الذي يعرف اختصاراً بكتاب «الحيل » على مخططات لمائة آلة ميكانيكية وتوضيحات لكيفية صنع كل واحدة منها. وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل آلاته واختراعاته.
الجزري اخترع عمود الكامات الذي أصبح لاحقا الجزء الأساسي من المحرك الحديث )غيتي(. واستخدم التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية، كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالبا على شكل طاووس حيث استخدمت في قصور بني أرتق، أحد السلالات التركية التي حكمت منطقة ديار بكر
بتركيا، الذين كان الجزري يشغل منصب كبير المهندسين في بلاطهم.
تلقف الأوروبيون اختراع الجزري بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصلوا إلى اختراع المحرك وبدأ عصر القطارات البخارية، التي كانت العمود الفقري لعصر النهضة والثورة الصناعية الأوروبية في القرون الوسطى.
أما في مجال الإنسان الآلي، فقد صنع أول نسخة بدائية من الألعاب التي صنعت بصورة إنسان، وتعمل بوظيفة مبرمجة لها مسبقا. فقد صنع فرقة موسيقية تطفو على سطح الماء مؤلفة من
شخصيات عدة، كل واحدة منها تصدر صوت آلة موسيقية معينة. وقد صنع هذه الآلة خصيصا لتسلية ضيوف البلاط الملكي في ديار بكر.
وأخيرا وليس آخرا، ساعة الفيل. وتعتبر هذه الساعة من بدائع ما صنع الإنسان إلى اليوم، فهي ساعة على شكل فيل، تعمل عن طريق نظام ماء متدفق مخبأ في بطن الفيل. الفيل نفسه صنع
بطريقة تأخذ الأنفاس حيث قام الجزري بتزيينه بطريقة فنية رفيعة المستوى، عن طريق تقسيمه إلى ستة أجزاء، كل جزء يحمل عناصر ثقافة معينة وهي: العربية والفرعونية والصينية والهندية
والأفريقية والإغريقية.
يعتبر الغربيون ساعة الفيل تحفة من تحف الزمان ومن أبرع ما اخترع الإنسان ونسخة مبكرة لمفهوم التلاقي والتعدد الحضاري. صنعت نسخ عديدة من هذه الساعة الأسطورية. توجد نسخة
من الساعة صنعت خصيصا لمتحف في سويسرا متخصص في تاريخ تطور آلات قياس الوقت، وتوجد نسخة فائقة الدقة في جامعة الملك سعود بالسعودية، وأخرى معروضة في مجمع ابن بطوطة
للتسوق في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.