اتصل بي أحد الأقرباء قبل أيام يقول: "دكتورة" لا أحد يصدّقني، لا أدري هل ستُصدقينني أم لا؟. أنا مُتعَبٌ جدّاً. لا أعلمُ ما بي ولكنني أشعر أنني مرهق. أشعر بالارتباك وعدم التنظيم. أجد صعوبة في التركيز. حصل كلّ هذا بعدَ إصابتي بفيروس كورونا المستجد. مديري في العمل يوبّخني ويظنّ الجميع أنني أختلقُ ذلك. لقد قصدتُ خمس مراكز طبية وأُجريت عليّ عشرات الفحوصات الطبية ولكن دون جدوى. ماذا أفعل؟ هل جُننت؟
عندها تذكّرتُ أن احدى الأمهات التي التقيتُها قبل أسابيع وهي تشتكي من ابنتها ذات الثماني عشرة عاماً والتي تختلقُ أعراضاً غريبة كي لا تحضر دروسها المدرسية.
الرابط الوحيد بينهما كان، أن كِلا الأعراض بدأت أو استمرّت بعد الإصابة بفيروس كورونا المستجد. فما هو تفسير هذه الأعراض؟
إنّه "كوفيد طويل الأمد". نعم، فلم يكتفِ هذا المرض من سلبنا طاقتنا، أحبائنا، حريتنا، حياتنا الاعتيادية، بل وأصبح طويلاً للأمد..
يتحدثُ الخبراء عن كوفيد طويل الأمد أو ما يسميه البعض بمتلازمة ما بعد كوفيد 19 على أنه مجموعة من الأعراض المختلفة التي قد تصيب أحد أو جميع أعضاء الجسم والتي يُعاني منها المريض بعد 4 أسابيع من اصابته بفيروس كورونا المستجد. وإلى الآن لا يوجد تعريف واحد واضح ودقيق لهذه المتلازمة، فهو موضع جدل بين الخبراء، لكن الأمر الذي اتفق عليه الجميع هو أنه "مرض متنوّع الأعراض".
ولقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في معرفة هذا المرض بشكل جدّي والتركيز عليه، بعدما كان جلّ اهتمام الدراسات والأبحاث خلال السنتين الماضيتين في كيفية علاج الالتهاب الحاد للفيروس وتقليل نسبة الوفيّات منه.
تُشير الإحصائيات إلى أننا نتعامل مع كارثة صحية جديدة، فنحنُ قد وصلنا إلى قرابة 196 مليون حالة كورونا مستجد حتى كتابة هذا المقال، تشافت منهم ما يقارب 179 مليون حالة. وبما أن الإحصائيات تشير الى أنّ شخص واحد من بين كلّ عشرة أشخاص يتعافون من المرض، قد يعانون من كوفيد طويل الأمد، فنحن بذلك نتحدث عن ما يُقارب ثمانية عشر مليون حالة قد تصاب بكوفيد طويل الأمد عالمياً.
وفي احدى الدراسات المسحيّة في هولندا، قام الباحثون باستطلاع على 2113 شخص متعافين من الفيروس وسؤالهم عن وجود أو استمرارية بعض الأعراض بعد 3 و 6 أشهر من الشفاء، وقد وجدت الدراسة بأن 77 % منهم قد عانى من تأثيرٍ على الأنشطة اليومية في حياته بعد ثلاثة أشهر من المرض وبقي 63 % يعانون من ذلك بعد 6 أشهر. كذلك هناك ما يُقارب 64 % ممن عانى من آلام متفرقة في الجسم بعد 3 أشهر من الإصابة بالفيروس، و 48 % بعد 6 أشهر.
الأعراض التي قد يعاني منها المريض:
نشرت الدكتورة ناتاليا لامبر بتاريخ 25 من شهر يوليو 2021 تقريراً مسحيّاً لأعراض كوفيد طويل الأمد، وقد قالت بأن هناك ما يُقارب المائتان عرَض من الممكن أن تصيب عضو أو أكثر في جسم الإنسان. وإن أكثر الأعراض شيوعاً هي: الشعور بالإعياء (والتي تصيب ما يقارب 48 % من المتعافين من الفيروس)، صعوبة التنفس، صعوبة التركيز، الكحة، الإسهال، وما يسمى بضبابية الدماغ (Brain fog) وهو الذي كان يعاني منه مريضي في الاتصال الذي ذكرته في بداية المقال.
عوامل خطر الإصابة بكوفيد طويل الأمد:
في البداية اعتقد الخبراء بأن كوفيد طويل الأمد يصيب فقط المرضى الذين عانوا من إصابة حادّة وشديدة من الفيروس، ولكن اتضح بعد ذلك أن الكثير من الذين أصيبوا بأعراض طفيفة من الفيروس، قد عانوا بعد ذلك من أعراض متلازمة كوفيد طويل الأمد. عوامل الخطورة تلخصت في: العمر، جنس الإناث، الصحة العقلية قبل الوباء، مرض الربو، الأمراض المزمنة التي يعاني منها الشخص والبدانة.
إنّ الفسيولوجيا المرضية لهذه الأعراض غير واضحة للعلماء حتى هذه اللحظة، ولا يوجد تفسير واضح لهذه الأعراض. غير أن الدراسات قائمة علي قدم وساق لتفسير هذه المتلازمة. وكان من أحدث الدراسات التي نُشرت في جامعة أكسفورد في يوليو 2021 خلصت بأن 22.9 % فقط من المرضى الذين أصيبوا سابقاً بمرض كورونا المستجد، كانوا خاليين تماماً من الأعراض بعد 12 شهراً من الإصابة. كذلك وجدت الدراسة أن هناك علاقة بين ارتفاع معيار الأجسام المضادة للنواة (Antinuclear Antibodies) وبين الأعراض الإدراكية العصبية لمتلازمة كوفيد طويل الأمد. وقد يشير هذا إلى أنّ المناعة الذاتية من الممكن أن تكون عاملاً مساعداً في المسببات المرضية لمتلازمة كوفيد طويل الأمد.
الحلول:
بنظري أنّ أول خطوة للحل هي وقوفنا بجانب المصابين، ودعمهم، وايصال فكرة أننا معهم ونتفهّم ما يُعانون منه. هناك خطوات بدأت بها بعض الدول وهي فتح عيادة خاصة لمرضى ما بعد كوفيد لمتابعتهم، فهم أعراضهم، ومحاولة مساندتهم جسدياً ونفسيّا. هؤلاء المرضى بحاجة إلى برنامج إعادة تأهيل متكامل لدعمهم للعودة لحياتهم الطبيعيّة. هذا البرنامج من الممكن أن يحتوي على: تمرينات التنفّس، دعم سلوكي واستشارات نفسية وغذائية.
مجموعات الدعم كذلك هي خطوة أخرى قد تساعد الكثيرين في تخطي هذه الأعراض. فقد أثبتت مجموعات الدعم للمرضى فعاليتها من خلال السنوات الماضية في الحدّ من الأعراض، تحسين الكفاءة الاجتماعيّة، وتوفير فرصة للأشخاص لتبادل الخبرات والمشاعر الشخصية، واستراتيجيّات المواجهة ومعلومات مباشرة عن المرض نفسه؛ وبالتالي أدّت إلى زيادة تقدير الذات وفهم واستيعاب الأعراض بشكل أكبر.
وعلى الصعيد الفرديّ، فأنت بحاجة الى تعزيز الثقة والمعرفة بالمرض، محاولة تقليل الضغوطات النفسية، تحسين جودة الحياة الصحية، التغذية السليمة وممارسة الرياضة لمدة 10 إلى 20 دقيقة في اليوم وزيادة المدّة بشكل تدريجيّ حسب المقدرة الفرديّة.
في النهاية أقول: نحتاج إلى دراسات مكثّفة لهذه المتلازمة الجديدة لفهم ماهيّة هذه الأعراض، تفهّم المرضى الذين يعانون منها، ومن ثم البحث عن العلاجات المناسبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أننا لا نستطيع التكهّن من أن هذه الأعراض قد تستمر لسنة، لسنتين أم مدى الحياة. ولكن البحث في هذا المجال أفضل من التوقف وانتظار زواله.
وللذين يُعانون أقول: نحنُ معكم ونتفهمكم.
د.فاطمة محمد اللواتي
أخصائية طب باطني
قسم أمراض الصدر
سلطنة عمان