تُلْهمك مِهْنتك بما تراه من سيناريوهات طبيَّة بأنَّ إنسانيَّتك هي جوهر وجودك البشري وذاتك الروحاني. في مشوارتحصيلي العلمي بين كلِّية الطِّب وكلِّية الحقوق أصبحت استشعر ألَمَ النَّاس بحساسية عالية لا حدود لها، كما أنَّ الأطبَّاءـ من بعد الله تعالى ـ هم من واهبي الحياة، فالطبيب يجب أنْ يجبر الروح قَبْل أنْ يجبر الكسور، وأنْ يملك رقَّة قَلْب تنعكس على تواصلك مع مرضاك، وفي نفْس الوقت أنْ يملك من الصَّلابة التي لا تتهشَّم لمفاجآت القدر، وأنْ يكُونَ في حالة تأهُّب لمتناقضات المشاعر.
تلك النَّظرات التي يُعطيك إيَّاها مريضك وهو يسلمك روحه ويغمض عَيْنَيْه، ويعلم أنَّك ـ من بعد الله ـ لن تتخلَّى عنه. ففي المستشفيات نرى مختلف الوجوه والجنسيَّات، مختلف اللُّغات والثَّقافات، ولكنَّ لُغة الألَم واحدة يكتنفها كُلُّ مَنْ يَمرُّ بوجعٍ أو بعجْزٍ أو بفقْدٍ.
لحظات الإنعاش القَلْبي لِمَريضٍ تَوقَّف قَلْبُه تتبَعْثَرُ فيها طمأنينة المكان، وتبدأ التِّلقائية الطبيَّة ونحن في سباق مع الزمن مُحاطين بفوضى المشاعر، في تحدٍّ لا يحتمل مناطق رماديَّة؛ إمَّا أنْ ننقذَ المَرِيض أو يستهم بالرَّحيل.
صَوْتُ المُؤشِّرات الحيويَّة يُنذر بتوقُّفِ قَلْب المَريضة، تُنادي المُمرِّضة بأعلى صَوْتِها تَوقَّف قَلْبُ الطِّفلة، كنتُ ما زلتُ في بداياتي، ارْتَعبْتُ ورمَيْتُ ما كان بِيَدِي وهَرْوَلْتُ مع باقي المُمرِّضات إلَيْها، شعرتُ بأنَّ قَلْبي تَوقَّف لِوَهْلة وأنا أراها في حالة إزرقاقٍ.
باشرتُ بِتحَسُّس رَقَبَتها لأبْحثَ عن نَبْض لا يُوجد، بدأنا بالإنعاش القَلْبي، ووصل بعدها أخصائي الأطفال لإكمال المُهمَّة، في مشهد ينفطر له القَلْب، لا تتمنَّى أنْ تراه، فما بالك بمشاعر الأُم وهي ترى ابْنَتها مُحاطةً بالأطبَّاء يُنعشون قَلْبَها الذي تَوقَّف مُتوَجِّسةً تفرك يَدَيْها وتَدْعُو الله وتتضرَّع، ما زال خطُّ النَّبضات مستقيمًا، مرَّت دقيقةٌ، وها هي الدَّقيقة الثَّانية وصَوْتُ المُؤشِّرات الحيويَّة يزيد من الهلَع، عاد النَّبْض لكنَّه ما زال ضعيفًا، قرَّرَ الطَّبيب نقْلَها للعناية المركَّزة، ولِسُوء الحظِّ في منتصف الطريق تَوقَّفَ القَلْبُ مرَّةً أخرى، وقام الفريق بالإنعاش القَلْبي مرَّةً أخرى، لِيَعودَ القَلْبُ مُتَشبِّثًا بالحياة بنَبَضاتٍ غير منتظِمة، لكنَّنا استطعنا إنقاذها على الأقلِّ، وصَلْنا إلى غرفة العناية المركَّزة لِيَستلمَها الفريق هناك، اعتقدتُ لِلَحْظة أنَّ مُهمَّتي أنتهت هنا، وعُدْتُ إلى إكمال مُناوبَتي وكأنَّ شيئًا لم يحدُثْ؛ لأُعْطي نَفْسي طاقةً للمواصلة بِوَجْهٍ مُبْتسم، ولكنَّ داخلي مُبعثَرٌ وقَلْبي في صَميمِه يَرجفُ مُمزَّقًا إرْبًا إرْبًا.
يَغْدُو الحزن رَفيقَنا عندما تَخونُنا اللَّحظات وتأخذُنا عَجلَة الحياة إلى مُفترَق طرق، في رحلةِ العَوْدة للمنزل بعد إنتهاء المُناوبة بحساسيَّتي المُفرِطة ودَمَعاتٍ مِنْ أسًى أَستذْكرُ الأحداث بمقتطفاتها البالية لِتَوقُّف قَلْب الطِّفلة.
عُدْتُ في اليوم التَّالي، ودائمًا كنتُ أذهبُ لأطمئنَّ عليها في العناية المركَّزة، وأتَفادَى النَّظر لباقي الأطفال المُرقَّدِين وصَوْتُ أجهزة المُؤشِّرات الحيويَّة يُشعرني بالرَّهبة وأنا أرى معاناتهم، ومُجرَّد شُعوري بأنَّ قَلْبَ أحَدِهم يمكنُ أنْ يتَوقَّفَ في أيّ ِلحظة يَجعلُني أُسرع بالخروج من القِسْم، فلا أتحمَّل المزيد من الآلام، لا أُريد أنْ أعرفَ عن أيَّة حالةٍ أخرى، جئتُ فقط لأطمئنَّ على مَرِيضَتِي.. صحيح هي ليست ابْنَتي، ولكنَّ ارتباطنا بِمَرْضانا لا يَنْتهي، وخصوصًا الأطفال منهم، فهم يزرعون السَّعادة في قُلوبنا بالرغم من مَرَضِهم، لنْ تستطيعَ أنْ تخلقَ حاجزًا بَيْنَك وبَيْنَ مَحبَّتهم، فهم يلتصقون بذاكرَتِنا، وأطيافُهم لا تُفارقنا.
مرَّت ثلاثة أيام وحالتُها تُسوء عندما أمُرُّ أُدِيرُ بِوَجْهي عن عَيْنَيْ والدتِها حتَّى لا تسألَني، وأعْلَمُ أنَّ الأطبَّاء أخبروها بالقليل من بصيص الأمل، عَلِمْتُ بتوقُّف قَلْبِها هَرْوَلْتُ إلى غُرفة العناية المركَّزة لأُلْقي النظرة الأخيرة عليها، ولكنِّي توقَّفْتُ عند الباب لم أقْوَ وتَراجعتُ.
هذه التَّجارب ليست عبثيَّة في حياتنا، بل تُوسِّعُ مدارِكَنا بثِقَةِ المُحارب المتمرِّس، وتصقل قناعتَنا بجاهزيَّة مُنفِّرة بأنَّ دوام الحالِ من المُحال، وأنَّنا ننصهر بَيْنَ يُسْر وعُسْر، هناك من قَدَرُه أنْ يعيش لِسَنة، وهناك من قَدَرُه أنْ يعيش لسنوات، وأنَّنا نعمل بَيْنَ رحمةِ الله وقضائِه، بِغَضِّ النَّظر عند مدى إمكانيتنا كثيرًا من اللَّحظات لا نملك فيها إلَّا الدُّعاء، فمَنْهجُ الإيمان يُضَمِّد النَّدبات ويُبْقينا على قَيْدِ الأمل.
د. رقية الظاهري
طبيبة مختصة في قانون وأخلاقيات مهنة الطب
سلطنة عمان