ضريح قلهات يستقبل زوار المدينة بيبي مريم مسجد يرث عاصمة عُمان

حسبما قرأت وسمعت من حكايات الجدات تعتبر مدينة قلهات الساحلية أقدم مدينة عُمانية على الإط اق وهذا ما أكدته تقديرات علماء الآثار، وهي أول عاصمة لعُمان قبل دخول الإسلام. وبسبب موقعها الاستراتيجي المطل على البحر كان ميناؤها يستقطب السفن القادمة من شتى بقاع الأرض، فرست فيه سفن الهند واليمن.

في السابق كان الوصول إلى مدينة قلهات عبر طريق غير مُعبد من ولاية صور وحسب ما أكدت لي أمي أن المسافة كانت تستغرق ساعة ونصف. الشارع يبرز جنبات البحر ويضفي ضريح بيبي مريم هيبة على المكان. طريق الوصول اليوم سهّلته الطرق المعبدة، ويمكن الانطلاق من مركز ولاية صور باتجاه الشمال الغربي وبلوغ الضريح الذي يبعد حوالي 25 كلم في مدة تتراوح بين 30 – 35 دقيقة تقريبًا، أما المنطلقين من مسقط فالضريح يبعد عن المدينة بنحو 150 كلم إلى الجنوب الشرقي.

زرتُ قلهات مدفوعة بفضول استكشاف ذاكرة المكان، والوقوف على المخيلة التي نسجت قصصًا تدوالتها العامة، وقصصًا أخرى تناقلها المؤرخون عن مسجد بيبي مريم أو كما يطلق عليه ضريح بيبي مريم.

دعاء وصدقات
الضريح مذكور في كثير من المصادر التاريخية براويات وأخبار متباينة كتاريخ وقوع الهزة الأرضية التي ضربت المدينة فقد نقل أحد المواقع الإلكترونية التابع لجهة حكومية أن تاريخ الهزة كان في القرن الرابع الهجري، بينما ورد في إحدى الصحف أن وقت وقوعها في القرن الخامس الهجري. التبيان في المعلومات يدفعني للبحث بعيدًا عن السرد التاريخي. الفنيات العمرانية للضريح تغريني أكثر للحديث عن بيبي مريم بقليل من المعلومات متجنبة الاحتمالات والتأويلات ومركزة على الحكاية التي التصقت بذاكرتي الشخصية عن بيبي مريم. أسباب الزيارة بالأمس تختلف عن أسباب اليوم، ففي السابق كان البعض يزور الضريح لأسباب تتعلق بالنية أو تنفيذ الوعد. وحدثتني أمي أن البعض يزور الضريح لعدة أغراض، فمنهم من يزور المكان للتضرع والدعاء لله فيه لطلب الشفاء من الأمراض، ومنهم من يتخذه مكانًا للتصدق بالقهوة وبخور اللبان وعود الخشب والحلوى والذبيحة )شاة من الغنم تذبح ويتصدق بلحمها( ويرى البعض في هذه الممارسات تشابهًا مع تقديم القرابين واستمرت هذه الممارسات حتى منتصف تسعينيات القرن المنصرم على نحو التقريب. الزوار سابقًا يحرصون على زيارة بيبي مريم برفقة شخص له دراية وإلمام بالمكان، ويقرأ الأدعية أثناء الزيارة ويساعد الزوار في توزيع ما لديهم من حلوى وذبائح على الأهالي.
السياج الحديدي الذي وضع أثناء الترميم أوقف عادات وممارسات زوار الأمس، فقد أصبح الاقتراب من المكان محظورًا إلا بتصريح من الجهة المختصة. من هي بيبي مريم لربما يسأل القارئ عن بيبي مريم ذات الضريح المشهور في قلهات، الجواب تداولته حكايات راجت على ألسن كبار السن في المنطقة والمناطق المجاورة فمنهم من قال أن بيبي مريم كانت فتاة تقية ذات عينين واسعتين تستطيع رؤية الأشياء البعيدة جدًا. تقواها جعلتها تهرب من أبيها الذي اجتمع برؤوس القبيلة لأخذ رأيهم في أمرٍ عزم عليه. وقال لهم أن ابنته كالشجرة التي يكون أحق الناس بثمرتها من يجتهد في العناية بها، فهو أحق الناس بابنته. ووافق الحضور على رأيه وأحقيته في ابنته. وصيفة بيبي مريم المقربة والفطِنة فهمت أن الوالد يريد الزواج من ابنته، فنقلت للبنت الخطط التي تدور حولها. ففرت إلى المسجد وصلت ركعتين وطلبت من الله أن تنشق الأرض وتبتلعها.
القصة التاريخية الأخرى مغايرة تماماً للأولى، وينقل راوتها أن بيبي مريم حكمت قلهات إبان حكم قطب الدين ملك هرمز في ذات الفترة التي زار ابن بطوطة المنطقة، ويصفها الرواة بأنها امرأة طاعنة في السن قامت بعمارة المسجد وخدمته إلى أن توفاها الله. ويستند رواة آخرون إلى بعض المصادر التاريخية التي تشير إلى أن المسجد الجامع بُني في عهد «بيبي مريم » في القرن الثاني عشر الميلادي في العهد القرمزي، وهي زوجة ملك قلهات بهاء الدين أياز، الذي كان مملوكًا خادمًا للملك القرمزي ثم استولى على الحكم بعد أن أطيح بالملك.

شعب مرجانية
الآثار المتبقية تدل على أهمية قلهات التاريخية بتميز مبانيها بنقوش بديعة على الحجر والشعاب المرجانية والقواقع التي استخدمت في بناء هذه المباني الفريدة باستخدام المواد التي جادت بها طبيعة المنطقة.
واجهات الضريح تشير وتثبت تأثر السكان بالحضارة الهندية والإيرانية، فالواجهات بنيت على شكل أقواس على النمط المغولي الذي اعتاد الهنود والإيرانيون اتباعه في تلك الفترة. كما أن النقوش والزخارف أو ما تبقّى منها التي تزين جدران الضريح تدل على المهارات اليدوية التي تمتّع بها الحرفيون في تلك الفترة، واهتمام الحضارة القديمة بالتفاصيل الجمالية. للمسجد قبة متناسقة الأبعاد تهدم بعض أجزائها وتتشابه جدرانها الأربعة في التصميم والزخرفة كما يحتوي الضريح على سرداب تحت الأرض في وسط السرداب قناة صغيرة الحجم لربما لتجمع الماء وكانت تعلوها قبة انهار جزء منها لأسباب متعلقة بالتغير المناخي والعوامل الطبيعية. كما يميز المكان طراز بناء يعتمد الشكل الأسطواني الذي يدل على طراز البناء الذي كان متّبعًا في ذلك العصر. ويوجد للمسجد ثلاث أبواب طولية الشكل ونافذة واحدة ودرج مبني من الطين والأحجار والقواقع والشعب المرجانية. سكان قلهات بنوا سورًا حول مدينتهم من ذات المواد التي بني منها الضريح، حقق السور دوره في السنوات الماضية ولكن من المؤسف أن ما تبقى منه اليوم جزء قليل حيث تهدم السور الحجري مطلقًا المجال للفكر أن يذهب بعيدًا كأننا أمام شريط سينمائي يأخذنا نحو عالم جميل مليء بالأسرار والحياة في مملكة تاريخية كانت مسرحًا لمفارقات تاريخية واجتماعية كثيرة. المدينة الأثرية ادخرت العديد من الآثار كخزان لمياه الشرب وحوض ماء إضافة إلى بعض المباني وآثار القبور وأشجار يابسة الجذوع وكأنها تنتظر من يحرك أغصانها لتحكي لزوارها حكاية مدينة تثير فيهم عبر آثارها وتاريخها مشاعر الدهشة.